قبل قراءة الحوار المفيذ مع الدكتور " برهان غليون " :* تحيي إدارة تحرير " الصحيفة الالكترونية " الأستاذ الباحث " ع الواحد بلقصري " على حسن تعاونه ، و تتمنى أن تتلق المزيد من مقالاته و دراساته القيمة . إدارة التحرير
أهلا بك دكتور ، السؤال الأول: تعيش المنطقة العربية نماذج من التغييرات السياسية والعسكرية تكاد تلمس جميع البلدان العربية .قوات الاحتلال في العراق، صراعات إقليمية مختلفة، أنظمة تسلطية لا تتقن سوى التعامل مع الأهداف الاستراتيجية للقوى العظمى، حركات سياسية ليس لها أي عمق جماهيري.هل المخرج في نظرك هو التأسيس لدولة ديمقراطية حداثية عبر الانفتاح على الخارج بشروط غير مقبولة، أم يجب تكثيف المقاومة المدنية، أم يعزى الأمر إلى أسباب أخرى؟
غليون:التأسيس لدولة ديمقراطية حديثة هو الهدف. لكن الوصول إليه يستدعي كفاحا طويلا ومريرا ضد قوى داخلية وخارجية، وضد عقليات وأنماط تفكير ومنظومات قيم وسلوكات، فردية وجماعية، كثيرة ومتداخلة. وبناء مفهوم هذا الكفاح ونظريته، وبلورة استراتيجيته، وتحديد وسائل العمل لإنجاحه، يشكل كل ذلك مهمات رئيسية ولا غنى عن تحقيقها للوصول إلى هذا الهدف. هذا يعني أنه لا يوجد مخرج جاهز وفوري للأزمة المجتمعية العميقة التي تعيشها المجتمعات العربية، والتي تتجلى من خلال أزمة السلطة السياسية والاجتماعية والأخلاقية معا، ويعكسها تهلهل وزن الدول وانكسارها، وتحلل الروابط الاجتماعية، وتفكك نظم التسيير والعمل والتفكير والتواصل بين الأفراد والجماعات، ومن ثم انبعاث روح العصبية الدينية والقبلية والاقتتال الأهلي وغياب القيادة السياسية الوطنية. ولا يمكن تأسيس دولة ديمقراطية بالمحافظة على منظورات السلطة والقيادة والتنظيم والتسيير والتفكير القديمة، ولا من خلال إصلاحها وترميمها، وإنما عبر إعادة بناء هذه النظم أي المجتمعات على أسس جديدة تمكنها من الرد على التحديات التي كانت في أساس نشوء الأزمة. ومن هنا، يرتبط الخيار الديمقراطي بالعمل على دفع حركة التجديد والتغيير في الفكر والسياسة والمجتمع والأخلاق. ولأن المسألة لا تتعلق بعودة وإنما ببناء وضع جديد مختلف عن السابق، فهي تبدأ لا محالة وتشترط القيام بنقد الأسس التي قام عليها الوضع السابق المتهاوي. وإذا كنا لم ننجح في التقدم على طريق إعادة البناء هذا بعد، ولا نزال نعيش تفاقم الأزمة، فذلك لأننا لم نتقدم كثيرا على طريق تحقيق هذا النقد الاجتماعي التاريخي الذي يعني كشف أسباب فساد النظم السابقة وهشاشتها بقدر ما يعني بلورة نظرية ورؤية ايجابية للوضع الجديد المأمول وتبيان شروط وفرص إنتاجه في الواقع التاريخي. لا يطرح الأمر إذن كخيار بين الديمقراطية والمقاومة فهما مكملان واحدهما للآخر. فالمقاومة للقهر المحلي والاستعماري ليست بديلا للديمقراطية ولكنها الطريق إليها. وبالمثل لا قيمة لمقاومة مفتقرة لأفق سياسي إنساني واضح، أي غير ديمقراطية. ولذلك فرقت في أحد مقالاتي الأخيرة بين ثقافة المقاومة وثقافة الانتحار وقلت إن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق بضربة خارجية، انقلابية أو أجنبية، ولكن بمراكمة عناصر اليقظة والتحول والتطور الذاتية التي تنشأ وتتفاعل عبر المقاومة الوطنية والسياسية والمدنية والأخلاقية. فلا يكمن الحل في ترك المقاومة أو إلغاء قيمها والاندماج أو الانصهار بالمعتدي والمتسلط والمتجبر، الداخلي والخارجي معا، وإنما في إخضاع برنامج المقاومة لبرنامج بناء الذاتية والقوى الذاتية. وهو ما يجعل من بناء الحرية الشخصية، أي بناء الوعي والضمير والإرادة عند كل فرد، ومن وراء ذلك تأسيس الفعل الأخلاقي، وتاليا الثقافة، شرطا للحرية الخارجية. من دون ذلك لن تكون المقاومة إلا استهلاكا للذات وإفقارا مستمرا للروح واستنفادا لآخر ما تبقى لنا من قيم المدنية الموروثة وتراثها. لن نتغلب على القوى الوحشية المسيطرة بتبني وسائل همجية، حتى لو حققنا بعض انتصارات مادية عليها، تكلفنا أضعافها من الناحية المدنية والروحية، كما يدل على ذلك ما يحصل في العراق من انفلات النزاعات الطائفية والعشائرية والمذهبية. وهو ما يعني أنه ليس هناك حل خارج إعادة بناء الثقافة والحياة المدنية والأخلاقية التي لا تقوم دولة من دونها.
السؤال الثاني:أضحت حركات الإسلام السياسي في عالمنا العربي بجميع تلاوينها تحظى بأولوية إعلامية وسياسية كبيرة (الإسلام الراديكالي، الإسلام المعتدل) وذلك بالنظر إلى المتغيرات الدولية المعقدة المرتبطة بالحرب على الإرهاب من جهة، من جهة أخرى بالنظر إلى الاستهدافات التي أصبحت تباشرها هاته الحركات نتيجة انتشار فكر الأساطير وثقافة الهروب وغياب الهوية الوطنية لدى المواطن العربي؟في نظرك كيف يمكن مواجهة هاته الظواهر، هل بتكريس الوعي الديمقراطي، الذي من شأنه ان يخلق علمانية حقيقية في الوطن العربي، أم الاهتمام بالفكر العلمي النقدي في الجامعات والمنابر الفكرية والإعلامية العربية؟
غليون:تبدأ المواجهة أولا، بنقد حركات الإسلام السياسي هذه من منظور النقد الاجتماعي التاريخي الذي ذكرت أعلاه، أي من فهم شروط ظهورها التاريخية والمجتمعية ومغزاها، ليس باعتبارها نشازا، بالمقارنة مع اتجاه تاريخي علماني أو ديمقراطي أو قومي مقياسي، وإنما تعبيرا رئيسيا عن هذه الأزمة المجتمعية التاريخية، وتجسيدا عميقا لها بما تعنيه من انهيار أسس التفاهم والتواصل المجتمعي وتخبط المعايير الفكرية والأخلاقية معا، وتكاثر الردود العشوائية عليها، وتضارب الإجابات المقترحة للخروج منها. وسوف نكتشف عبر ذلك مباشرة أن ما ندعوه حركات الإسلام السياسي لا يعبر عن مضمون مجتمعي واحد، حتى لو أنه يكتسي وشاحا مشتركا هو الرجوع في صوغ الحلول أو الإجابات المقترحة إلى الإسلام، كنص أو كتراث تاريخي أو كمثال أخلاقي. لكن ليس هناك علاقة بين الرد الإسلامي الليبرالي التركي مثلا والرد الجهادي التكفيري الذي تجسده القاعدة. وبالمثل لا يمكن ايجاد علاقة ذات قيمة من منظور السياسة والاجتماع والتطور التاريخي بين حركات الإسلام السياسي على تنوعها، وبين عودة الجمهور المسلم الواسع إلى المقولات الدينية للتعبير عن تطلعات هي في العمق مساواتية واستقلالية وقانونية حديثة. ففي ما وراء وحدة المرجعية الشكلية توجد مطالب وردود أفعال وتطلعات ورؤى مختلفة أيضا لطبيعة المهام المطلوبة لبناء الوضع المجتمعي الجديد، ولمفهوم هذا الوضع وطبيعته.ما قلته يعني أن الخطابات الإسلامية والعلمانية لا ينبغي أن تمنعنا من رؤية تنوع المشاريع المتنازعة في إطار إعادة بناء المجتمعات العربية المهدمة والمخربة، في ما وراء القشرة الايديولوجية التي تغطي عليها. وكما أن من الممكن لقوى اجتماعية إسلامية المرجعية أن تساهم مساهمة كبرى في نجاح الخيار الديمقراطي وترسيخ أسس استقراره، وهذا ما حصل في تركيا في العقد الأخير، هنا بالعكس حركات وتيارات واتجاهات إسلاموية لا تفيد إلا في تفاقم الأزمة ودفع المجتمعات العربية نحو المزيد من الانهيار والانحلال والغرق في المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والدينية غير الممكن حلها. هذا يعني أن علينا كباحثين أو ناشطين ديمقراطيين أن نتجاوز في نظرتنا لما يحصل مستوى المظاهر السطحية الخارجية، لنركز على الاختلاف بحسب الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، حتى نستطيع أن نشكل كتلا فاعلة أو فاعلين تاريخيين قادرين على العمل من منظور إعادة بناء المجتمعات العربية على أسس ديمقراطية حديثة. أما إذا تثبتنا على مظاهر الانقسام الايديولوجي ونزعنا إلى تكريس خريطة المعسكرات المتنابذة، التي لا إمكانية للتواصل بينها، بعضها إسلامي المرجعية وبعضها علماني، فلن يكون لدينا أي حظ للخروج من أزمة التحلل المجتمعي الراهن، لأننا سوف نكرس الأزمة ونعيد إنتاجها. فهذا التصدع الفكرية والنفسي والديني، مثلما يشكل تجسيدا للأزمة، يقوم أيضا بإعادة إنتاجها، وبصورة أكثر تفاقما مع انبعاث الطائفية والعشائرية بموازاة ذلك. لا ينبغي أن نقبل بهذا التقسيم كأمر نهائي واقع، ونعمل على أساسه، وإنما علينا تفكيكه ومقاومته وحله في منظومة فكرية وسياسية تتجاوز الإسلاموية والعلمانوية، أي تقوم على خيارات سياسية ديمقراطية ووطنية/مواطنية معا. وفي هذه الحالة ليس هناك ما يمنع من الجمع بين التوعية الديمقراطية، كعمل ايديولوجي سياسي، وبين تطوير النقد العلمي والأكاديمي لمظاهر الأزمة المجتمعية والدينية معا.
السؤال الثالث:يعيش العالم العربي العديد من الخطابات المتعلقة بالديمقراطية ومشاريعها (المشروع الحداثي الديمقراطي، حماية الانتقال الديمقراطي....) لكن في المقابل نجد بعض هاته الخطابات تكاد تتبناها الدول وأنظمتها السياسية والأحزاب في برامجها ولا نجد لها داخل بنية المجتمع أي أثر.في نظرك كيف يمكن تكريس الفكر الديمقراطي فكرا وتربية وممارسة؟
غليون:لا يزعجني ضيق قاعدة انتشار الفكرة الديمقراطية ولا يدفعني لليأس. فمن جهة أولى لا تختزل التحولات المجتمعية المطلوبة، أي تحديث المجتمعات العربية في العمق ودمجها في حضارة عصرها، وتنمية فرص انبعاث الإنسان الحر والمبدع فيها،على الديمقراطية، كما أن الديمقراطية لا تحصل في الفراغ وإنما هي جزء من عملية مجتمعية تاريخية أوسع لا ينبغي نسيانها ولا تجاهل ترابط أجزائها وأبعادها. ومن جهة ثانية لا يرتبط الدخول في الحداثة السياسية أو التحول نحو الديمقراطية بانتشار المفهوم الديمقراطي أو بتحول الديمقراطية إلى ايديولوجية غالبة. كثيرا ما تقود الاحداث المجتمعات، إلى الدخول في توازنات سياسية وجيوسياسية واجتماعية معينة تدفع هي نفسها إلى ولادة سيرورة تعددية تساهم في اكتشاف الديمقراطية وتطوير مفهومها. لا أعتقد، على سبيل المثال، أن مجتمعات أوروبة الشرقية وروسيا قد تعمقت في فهم الديمقراطية، أو شهدت انتشار فكرتها على نطاق واسع قبل أن تنتقل إليها بعد انهيار النظام السوفييتي. لقد نشأت الثورة المدنية على النظام القائم بسبب قصور هذا النظام عن تلبية المطالب الأساسية لمجتمعاته، كما تحددها الحقبة التي وجدت فيها، وانكشاف عجز منظوماته عن الإنجاز، وتضاؤل مردوده عموما في جميع الميادين. وحصل التحول للتعددية والديمقراطية بسبب عدم وجود نموذج بديل آخر. ولذلك وجدنا العديد من هذه البلدان، بما فيها روسيا بوتين، تعود بشكل ما تحت سيطرة النخب القديمة الشيوعية، التي بدلت ثوبها، لكن احتفظت بعقليتها، هربا من الفوضى التي أحدثها انهيار النظام.قد يحتج بعضهم بالقول إن ما يميز مجتمعاتنا هو وجود الإسلاموية كبديل للديمقراطية آخر. وهو ما لم تعرفه المجتمعات الشيوعية السابقة. وليس هناك شك في نظري في أن انتشار شعار الاسلام هو الحل يشكل عقبة أمام تطور الفكرة الديمقراطية في البلاد العربية، سواء أكان ذلك بسبب ما يقدمه من حلم بعدالة اجتماعية مستمدة من الوحي، أو بسبب خوف قسم من الرأي العام من البديل الإسلامي وتخويف النظام منه. لكن هذا على المدى القصير وفي المظهر فحسب. فالواقع أن الإسلام قد يقدم، مثله مثل أي دين آخر، نموذجا بديلا للأخلاق والقيم، لكن ليس للاقتصاد ولا للدولة ولا للعلم ولا للتنقنية ولا للتنظيم الاجتماعي. ويشكل الخطاب الإسلامي المتنوع اليوم عاملا من عوامل التشويش على وعي الأزمة وبشكل خاص على بلورة فكر واقعي وعملي تاريخي للخروج منها. بيد أنه لن يحول طويلا دون إدراكها. وبقدر ما سوف تلتئم الشروط التاريخية، السياسية والجيوسياسية، والفكرية للتقدم على طريق الخروج من أزمة التخبط الراهنة، سوف تبرز الخلافات العميقة بين المنتمين للمرجعية الإسلامية الواحدة، ويتم الفرز داخل الإسلاميين بين التيارات الأغلبية التي ستختار طريق الاندماج في حضارة العصر والعيش في شروطه، مع الاحتفاظ بالإسلام كمنارة أخلاقية، والأقلية التي ستفضل النكوص إلى الماضي. فالانتماء إلى المرجعية الإسلامية يغطي مطالب وتطلعات كثيرة ومتباينة ولا يتعارض بالضرورة ودائما مع المطالب المادية والسياسية والأخلاقية التي تقوم عليها المجتمعات الحديثة. من هنا ليست المشكلة الأكبر التي تحول دون نمو القوى الديمقراطية هو انتشار ايديولوجية الإسلاميين، وإنما هناك عوامل أخرى رئيسية ربما كان أهمها التحالف الموضوعي بين النخب الحاكمة المنفصلة عن الشعوب والقوى الكبرى الصناعية التي تريد الحفاظ على سيطرتها الكاملة على القرار في منطقة استراتيجية حساسة، أي بين نظم السيطرة المحلية الزبونية ونظم الهيمنة الدولية شبه الاستعمارية. وليس انتشار الايديولوجية الاسلاموية نفسه سوى نتيجة غير مباشرة وأحيانا مباشرة للمأزق السياسي والاجتماعي والفكري الناجم عنه. وهذا، من دون أن ننسى عوامل أساسية أخرى تتعلق بالأوضاع الاقتصادية والثقافية والعلمية التي تميز المجتمعات العربية وتحرمها أيضا من فرص نمو توقعات الدخول في الحداثة والاندماج الفعال والايجابي في الحضارة الراهنة.
السؤال الرابع: بشأن الأوضاع المعقدة الأخيرة التي تعيشها فلسطين ولبنان بشأن انعدام الائتلاف الوطني.ما هي العبر التي يمكن الخروج بها من خلال تشخيصك لهذه الأوضاع المعقدة؟
غليون:كما ذكرت، التعبير الرئيسي للأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية هو تصدعها وانقسامها بين أكثرية فقدت الثقة بالصيغ والحلول الحديثة أو المرتبطة بفكرة الحداثة ومفهومها، وتكاد تيأس منها، وتعتقد ان المسؤول عن الأزمة اوالتخبط الراهنين هي هذه الصيغ والمفاهيم، وأقلية تعتقد أن السبب هو في تقاليد المجتمع والدين المحافظة وفي رفض النخب الحاكمة تبني الحلول الجذرية التحديثية. والفئة الأولى تطالب بتطهير المجتمع والبلاد من آثار التغريب والحداثة، والفئة الثانية تنادي باستئصال ما تسميه قوى الظلامية والرجعية. ويولد هذا الانقسام بل الفصام، المستند على هيجانات واحتقانات نفسية وسياسية لا على مقاربات عقلية وموضوعية، قطيعة متزايدة بين الطرفين لا مخرج منها. ليس لأن الأقلية التي تسمى علمانية، وهي ليست كذلك، تحتكر، في مواجهة الأكثرية الاسلامية، في أغلب البلدان، السلطة وموارد القوة واستخدام العنف فحسب، ولكن أكثر من ذلك لأن كلاهما، مشروع الدولة الإسلامية ومشروع الدولة العلمانية، أو شبه العلمانية، التي تريد أو تدعي أنها تريد أن تكرس خيار الحداثة وتدافع عنه، بالوسائل القهرية والعنف والاستبداد، طريق مسدود. المشروع الأول لأن الإسلاموية كما ذكرت ليست مشروعا أصلا، وإنما هي غطاء لمشاريع أو لأشباه مشاريع ومطالب وتطلعات مختلفة ومتباينة ومتناقضة، لا يمكن أن تقود، عندما تواتيها فرصة الوصول إلى السلطة، إلا إلى الانقسام المتزايد والاقتتال بين الإسلاميين أنفسهم. وهو ما جرى في جميع النظم الإسلامية التي انبثقت في العشرين سنة الأخيرة، وأحيانا قبل الوصول إلى السلطة. والمشروع الثاني لأن الإستبداد لا يمكن أن يقود، تحت أي يافطة جاء، إلى شيء آخر سوى خيانة الحداثة وقيمها، وتحويل الدولة إلى مزرعة للأسر المالكة أو الحاكمة لا فرق، بقدر ما يعني تحييد الرأي العام، وتفريغ المجتمع من الحياة السياسية، وإكراه الأفراد على الخضوع والطاعة العمياء. فإلغاء الحريات هو الأساس لإجهاض الحداثة وقطع الطريق على أي تقدم آخر، في الاقتصاد والسياسة والعلم والتقنية والإدارة والأمن الوطني والأهلي على حد سواء. فالحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية هي منطلق الحداثة وشرط وجودها، لأنها الأساس الذي يقوم عليه بناء الفرد كمواطن مستقل ومسؤول، ومبدأ تربيته كمصدر وعي وصاحب إرادة ومبادرة، وبالتالي كمشارك أو شريك في جماعة سياسية تتجاوز الرابطة الدموية أو الدينية والمذهبية. ومن دون ذلك ليس هناك أمل لا في قيام أمة ولا دولة حديثة ولا مجتمع مدني. كان من الممكن أن يقود هذا الانسداد المزدوج إلى انتشار إدراك أعمق بالأزمة التاريخية التي تعيشها المجتمعات العربية، ويمهد للخروج منها بصورة أسرع، لو لم ينفتح الانقسام الداخلي ويرتبط التصدع الوطني بصراع أوسع، دولي وإقليمي، يشكل الشرق الأوسط، والمشرق العربي خاصة، مسرحه الرئيسي. بيد أن اندراج الطرفين المتنازعين في الاستراتيجيات الدولية واصطفافهما وراءها قد عملا على تعزيز هذه القطيعة، ودفع نحو حرب داخلية مرتبطة بالحرب الدولية والإقليمية ورهينة لها. هكذا أصبحت الإسلاموية، التي بدأت كحركة احتجاج داخلي على الظلم الاجتماعي والتسيب القانوني والاستهتار بمصالح الناس ومستقبلهم، حركة دفاع عن الهوية في وجه الثقافة والقيم العصرية، بوصفها قيما غربية. وهو ما عززته السياسات الغربية التي وجدت هي نفسها في الإسلاموية عدوا استراتيجيا وتاريخيا بديلا يعوضها عن انهيار العدو السوفييتي، ويبرر للمركب الصناعي العسكري، وللمصالح الاستعمارية أو شبه الاستعمارية عموما، الاحتفاظ بمواقعها ونفوذها في البلدان الصناعية. وبالمقابل، تحولت شعارات الديمقراطية والعلمانية إلى حصان طروادة لتلك القوى الدولية الرامية إلى الاحتفاظ بنفوذها في مواجهة الموجة الإسلامية، أو إلى منطلق لترميم النظام شبه الاستعماري الذي يستند إليه هذا النفوذ. وهكذا تمفصل الصراع الداخلي مع صراع خارجي يتبع أجندته الخاصة، وتعقدت سبل المواجهة الداخلية، ومعها فرص اليقظة والخروج من الأزمة. فقد أعطى هذا الصراع للفريق العلماني المحلي، في كل البلدان العربية وعلى مستوى المنطقة ككل، الانطباع أن بإمكانه الفوز بالمعركة وحسم الموقف لصالحه طالما أنه يحظى بدعم دولي واسع، كما أعطى الانطباع للفريق الإسلامي بأن التنازل أمام الأقلية العلمانية المسيطرة لا يعني خيانة الأغلبية المؤيدة له فحسب وإنما أكثر من ذلك الاستسلام أمام قوى الهيمنة الدولية والاستعمارية. هكذا تحول الاحتجاج الاجتماعي باسم الاسلام، كما جسدته الحركة الاسلامية في بداياتها، إلى ما يشبه الحرب العالمية ضد "الإمبريالية" والسيطرة الخارجية وقواعدها المحلية. كما تحول الدفاع عن مشروع الحداثة العلماني إلى حرب "وطنية" ضد الإسلام والإسلاميين، ومن وراء ذلك إلى ذريعة لتبرير الاستبداد والتحالف مع القوى الاستعمارية. لقد ضاعف ربط الصراعات الداخلية بالصراعات الخارجية من تعقيد المشكلة ومن تفاقم الأزمة، حتى لم يعد من الممكن مواجهة أي نزاع داخلي بمعزل عن الأقطاب الدولية. وبدل أن نتجه نحو تسويات وطنية، كما حصل في جميع المجتمعات التي عرفت العديد من الأزمات، أصبحنا، مدعمين كل منا بحليف خارجي، نتجه بشكل اكبر نحو القطيعة والتخوين المتبادل والمواجهات المفتوحة من دون نهاية. وبدل أن تقودنا مقاومة الأجنبي "وعملائه" إلى تعزيز استقلالنا الوطني عن الدول الكبرى، أو تدفع بنا العلمانية إلى تعزيز التحولات الديمقراطية، عشنا في العقود الماضية التجربة المريرة للسقوط بشكل أكبر في التبعية والالتحاق بالقوى الأجنبية و تعزيز نظم العسف والاستبداد معا.ليس المسؤول عن ذلك الإسلاميين او العلمانيين، وإنما تبني خيارات خاطئة وغير ناجعة في المقاومة وفي المحافظة على الدولة والنظام "العلماني" معا. فلم نر في المقاومة إحتجاجا ضد الظلم والعسف والطغيان، ولكن نبذ القوى والأفكار والمواقع الأجنبية، التي طابقنا بينها والأفكار والقيم والقوى الحديثة. وهو ما يزيد من تعميق الشرخ داخل المجتمعات. وبالمثل، لم نر في الحفاظ على النظم الحديثة العلمانية او شبه العلمانية سوى سياسات الأمن والقمع وقتل الحريات التي ليس لها نتيجة أخرى سوى تعزيز قبضة الممسكين بالسلطة على ثروة البلاد والمجتمعات ومواردهما، وتحويل الفساد إلى سياسية وطنية. وفي النتيجة لم نعمل بخياراتنا الخاطئة هذه سوى على تعميم الاقتتال وتخليده من خلال ربطه بأجندات خارجية. وقد عملت المطابقة الكلية بين مقاومة النفوذ الأجنبي والوطنية، وبين الحفاظ على النظم الحديثة والعلمانية، على خلط في الاوراق قضي على ملكة التمييز عند الرأي العام، وجعل من شعار العلمانية أفضل وسيلة لحل عرى الوطنية ودولتها الحديثة، كما جعل من شعار المقاومة الإسلاموية أفضل وسيلة لتحويل حركة الاحتجاج الاجتماعي عن أهدافها الديمقراطية وجعلها غطاءا لنظم البطش والفساد والطغيان. وها هي مجتمعاتنا تتمزق بين أقليات اجتماعية تعتقد أنها لا تضمن حقوقها الإنسانية وحرياتها إلا بالتعامل المباشر مع القوى الاجنبية، وجماهير مهمشة ومنبوذة لا تجد في مواجهتها من وسيلة سوى بعث العصبية الدينية أو الإتنية أو الطائفية أو القبلية في غمار مقاومة لا ثمرة منها سوى تقويض أسس الحياة الوطنية.
السؤال الخامس:كيف يمكن بناء فكر نقدي في الجامعات العربية من شأنه أن يبني لنا وعيا مجتمعيا يمكن أن يكون مدخلا للتأسيس لدول حداثية ديمقراطية ؟
غليون:بناء الوعي النقدي والوعي الاجتماعي المؤسس لدول حديثة ديمقراطية ليس الواجب الأول للجامعة ولكنه واجب المربين والكتاب والصحفيين والمفكرين والسياسيين. وهو لا يحصل في الجامعة إلا عرضا لأن مكانه وسائل الإعلام والثقافة والمنظمات المدنية والاحزاب التي تعلم الناس العمل الجمعي وروح التعاون والتضحية والمسؤولية الجمعية. أما الجامعات فواجبها الأول هو تنمية المعرفة وتطويرها وبنائها على أسس قوية، أي بناء العلم. والمعرفة العلمية لا تنمو وتتراكم وتتطور إلا بقدر ما تميز نفسها عن الايديولوجية، أي بقدر ما تميز الأحكام الواقعية الوجودية أو ملاحظة الوقائع، عن الأحكام القيمية والمعيارية، أو تقرير ما ينبغي أن يكون أو لا يكون. وعندما تنجح الجامعات في بناء مثل هذه المعرفة العلمية المرتبطة بفهم الواقع كما هو وليس بعلاقته بالقيم المجتمعية، تكون قد أسدت معروفا عظيما للديمقراطية وعلمت الناس كيف يميزون بين خياراتهم الواقعية وتلك الوهمية. وهذا يعني أن الثقافة لا تبنى في الجامعات ولكن للجامعات مهمة رئيسية هي توفير البنية المعرفية العلمية السليمة للثقافة. فثقافة من دون قاعدة علمية متينة، تبقى ثقافة هشة ومعرضة للهزات والتقلبات وربما في عصرنا الراهن للانحسار، وفي أحسن الحالات تظل غارقة إذا نجحت في البقاء في الأحلام والأوهام. لكن ثقافة من دون عقائد وجدالات ايديولوجية، وآداب وفنون وهياكل أسطورية وخيالات وأوهام ليست أيضا ثقافة، ولا يمكن أن تستمر. ولعل أكثر ما أساء لجامعاتنا، وبالتالي لثقافتنا الحديثة لما بعد الحرب العالمية الثانية، هو سيطرة السياسة عليها، وإخضاع المعرفة فيها للخيارات العقائدية. فلم يفرغ مؤسساتنا من مضمونها ويقضي على الوعي وليس على الوعي النقدي والديمقراطي فحسب، سوى فكرة العقائدية وتعميمها في الجامعة والجيش والدولة والعائلة، سواء اكانت العقيدة المقصودة قومية أو وطنية أو اشتراكية أو إسلامية. ومنذ اللحظة التي تضع فيها الوزارة صورة الملك أو الأمير أو الرئيس على الصفحة الأولى من الكتب المدرسية، ينبغي أن نعرف أنها قضت على أي مستقبل للعملية التعليمية، وحطمت الأساس الذي يقوم عليه العلم والذي يبرر إقامة المدارس والجامعات. هذا لا يعني أنه لا ينبغي على الطلبة والمدرسين وغيرهم أن يعملوا في السياسة، وأن لا يكون لديهم ايديولوجية. هذا غير ممكن وعكس المطلوب. كما لا يعني ان هناك معرفة مفصولة عن التربية وعن الخيارات الايديولوجية الحاسمة. لكن الايديولوجية والخيارات الأخلاقية والسياسية ينبغي أن تبقى مسألة متميزة عن المعرفة العلمية، ومرتبطة بخيارات الأفراد الشخصية، لأنها تتعلق بحرياتهم الأساسية ولا وجود لها أو قيمة خارج الاختيار الحر للأفراد. ربما كانت التربية، جزءا من عملية التكوين على مستوى العائلة والحضانة والمدارس الابتدائية والثانوية، لكن الجامعات هي بالأساس مؤسسات علمية، أي متخصصة في التكوين العلمي والمهني والبحث وإنتاج المعرفة وتنميتها. والمطلوب منها أن تسهر على تخريج علماء يتقنون مجموعة معينة من المهارات والقدارات والمعارف التي تمكنهم من القيام بالواجبات التي تقتضيها وظيفتهم العلمية أو الإدارية أو التقنية، من دون أن يتأثر هذا التكوين باختياراتهم السياسية والأخلاقية، أو يؤثر فيها، ليبرالية كانت أو اشتراكية أو قومية أو إسلامية أو غير ذلك. ولا يمكن للجامعة أن تجمع بين تكوين قدرات الناس العلمية ومهاراتهم، بصرف النظر عن خياراتهم السياسية والأخلاقية، إذا تبنت بعض هذه الاختيارات. فهي لا يمكن أن تخلط بين الوظيفتين العلمية والايديولوجية من دون أن تهدد بالتشويش على وظيفتها الرئيسية وربما بخيانتها. لكن في مجتمع تحرم فيه السلطة، لأسباب سياسية واستراتيجية أمنية، كل النشاطات الفكرية والسياسية الحرة، فلا تسمح بوجود منتديات فكرية ولا صحافة حرة ولا جمعيات مدنية مستقلة ولا أحزاب سياسية حية، من الطبيعي أن ينتقل النشاط الايديولوجي، الذي لا غنى عنه لأي مجتمع، إلى الجامعة، بوصفها تشكل مركز تجمع العاملين بالبحث والفكر والثقافة عموما. وأحيانا يشكل هذا الخيار جزءا من سياسات بعض الحكومات التي تعتقد أنها تستطيع بذلك أن تحصر النقاش المتعلق بقضايا سياسية ووطنية حساسة في إطار مغلق ودائرة محدودة، وتمنع الرأي العام من الاتصال بالمثقفين والباحثين أو التواصل مع أفكارهم والتأثر بهم. ونحن نعرف اليوم نتائج هذه السياسة وتأثيرها المدمر على منظومة إنتاج المعرفة وتطوير العلم والبحث والتقنية في البلاد العربية.